إعلام

إعلام

مقتطف من الفصل 5 – العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري

أكبر خديعة في التاريخ

مقتطف من الفصل 5 – العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري

أكبر خديعة في التاريخ

فكِّرْ للحظات في الثورة الزراعية من وجهة نظر القمح. لم يكن القمح قبل عشرة آلاف سنة سوى نوع من أنواع عديدة من العشب البري، متقوقع في نطاق ضيق من الشرق الأوسط. وفجأةً وفي غضون بضعة ألفيات قصيرة، غدا منتشراً في جميع أنحاء العالم. ووفقاً لمقاييس التطور الأساسية للبقاء والتكاثر، أضحى القمح واحداً من أنجح النباتات في تاريخ الأرض.

لم تنمُ في السهول العظمى لشمال أمريكا حتى ساقٌ واحدة من القمح قبل 10,000 سنة، أما اليوم فبإمكانك أن تتجول لمئات المئات من الكيلومترات دون أن تصادف نباتاً آخر غيره. وفي أنحاء العالم يغطي القمح ما يقارب من 2.25 مليون كيلومتر مربع من سطح البسيطة، وهذا يساوي تقريباً عشرة أضعاف مساحة بريطانيا. كيف تحول هذا العشب من عديم الأهمية إلى واسع الانتشار؟

تمكن القمح من فعل ذلك من خلال التلاعب بالبشر العقلاء من أجل مصلحته، فهذا النسّان (ape) كان يعيش حياة راحة ورضى بالصيد والجمع حتى قبل حوالي 10.000 سنة، لكنه بدأ حينها يوظف جهداً أكبر فأكبر في زراعة القمح. وخلال بضعة ألفيات، وفي أجزاء عديدة من العالم لم يعمل البشر من الفجر إلى الغسق إلا لرعاية نبات القمح. لم يكن الأمر سهلاً، تطلب القمح الكثير من الجهد. لم يحب القمح الأحجار ولا الحصى، فكسر العقلاء ظهورهم وهم ينظفون الحقول. ولم يحب القمح مشاركة مساحاته أو مائه أو غذائه مع بقية النباتات، فكابد الرجال والنساء لأيام طوال وهم يزيلون الأعشاب تحت الشمس الحارقة. وحين مرض القمح كان على العقلاء أن يراقبوا الديدان والآفات بانتباه. وتعرض القمح لمهاجمة الأرانب وأسراب الجراد، فبنى الفلاحون السياجات ووقفوا حرساً عند الحقول. وحين عطش القمح تكبد البشر جلب الماء له من الجداول والينابيع، بل إن جوعه دفع البشر إلى جمع روث الحيوانات لتغذية الأرض التي ينمو عليها.

لم يتطور جسم البشر العقلاء للقيام بهذا النوع من الأعمال؛ تكيف لتسلق أشجار التفاح ومطاردة الغزلان، وليس لتنظيف الحقول من الحجارة أو حمل دلاء المياه، وهكذا فالذي دفع الثمن هو العمود الفقري والرُكَب والرقاب والأكتاف. تشير دراسة الهياكل العظمية العتيقة إلى أن التحول إلى الزراعة نجم عنه زيادة في العلل، كانزلاق الغضاريف والتهاب المفاصل والفتاق. أضف إلى ذلك فإن الأعمال الزراعية الجديدة تطلبت الكثير من الوقت أجبر خلاله الناس على الاستقرار الدائم بجانب حقول القمح. لقد دَجَّننا القمح، وكلمة دجَّن باللغة الإنجليزية (domesticate) أتت من الأصل اللاتيني (domus) والذي يعني “سكن”، فمن هو الذي يعيش في سكن؟ ليس القمح بالطبع، بل العقلاء.

كيف أقنع القمح الإنسان العاقل باستبدال حياته الجيدة إلى حد ما بحياة بائسة؟ ما الذي قدّمه له بالمقابل؟