إعلام

إعلام

مقتطف من الفصل 10 – العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري

رائحة المال

مقتطف من الفصل 10 – العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري

رائحة المال

ندما ظهرت الأشكال الأولى من المال في باديء الأمر، لم تتولّد لدى الناس ثقة تلقائية بها، لذلك كان من الضروري تعريف “المال” على أنه الشيء الذي له قيمة فعلية بذاته. المثال الجيد على ذلك هو أول أنواع المال التي ظهرت في التاريخ؛ وهو شعير السومريين. ظهر في سومر حوالي سنة 3000 ق. م، في نفس الزمان والمكان، وتحت نفس الظروف، التي ظهرت فيها الكتابة.

فكما اختُرعت الكتابة  لتلبية احتياجات الأنشطة الإدارية المكثفة، استُعمل مال الشعير كذلك لتلبية احتياجات الأنشطة الاقتصادية المكثفة.

كان المال ببساطة شعيراً؛ كميات ثابتة من حبوب الشعير تستخدم كمقياس عالمي لتقييم وتبادل كل  البضائع والخدمات الأخرى. وكانت “السيلة” هي المقياس الأكثر شيوعاً، وهي تساوي ما يقرب من لتر واحد. صُنعت طاسات موحدة بكميات كبيرة، كل واحدة بسعة سيلة واحدة، بحيث كان بإمكان أي شخص بحاجة لشراء أو بيع أي شيء أن يقيس بسهولة كمية الشعير الضرورية. وكانت الرواتب هي الأخرى تدفع بسيلات الشعير. كان العامل الذكر يكسب ستين سيلة في الشهر، بينما كسبت العاملة الأنثى ثلاثين سيلة. أمكن لرئيس العمال أن يكسب ما بين 1,200 و5,000 سيلة. لم يكن بإمكان حتى أكثر العمال نهماً أن يأكل 5,000 لتر من الشعير في الشهر لكنه كان بإمكانه استخدام السيلات التي لم يأكلها لشراء كل أنواع السلع الأخرى، مثل الزيت والماعز والعبيد وأطعمة أخرى إلى جانب الشعير.

وعلى الرغم من أن للشعير قيمة بذاته إلا أنه لم يكن من السهل إقناع الناس باستخدامه مالاً بدلاً من كونه مجرد سلعة أخرى. ولكي نفهم السبب، فكرْ فقط فيما سيحدث إذا أخذت أنت كيساً كاملاً من الشعير إلى مركز تسوقك المحلي، وحاولت شراء قميص أو بيتزا. قد يتصل البائعون بحراس الأمن. مع هذا، كان من الأسهل أن تُبنى الثقة في الشعير كأول نوع من المال، لأنّ الشعير له قيمة بيولوجية أصيلة، إذ يمكن للبشر أن يأكلوه. من ناحية أخرى، كان من الصعب تخزين الشعير ونقله. حدثت النقلة الحقيقية في تاريخ النقد حين اكتسب الناس ثقة في المال الذي يفتقر إلى قيمة أصيلة لكنه أسهل في التخزين والنقل. ظهر مثل هذا النوع من المال في بلاد ما بين النهرين القديمة، في منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد. كان ذلك الشيكل الفضي.

لم يكن الشيكل الفضي عملة معدنية، بل كان 8.33 غراماً من الفضة. عندما شرعت قوانين حمورابي بأنه يجب على الرجل السيد الذي يقتل عبدة أن يدفع لمالكها عشرين شيكلاً من الفضة، فهذا كان يعني أن عليه أن يدفع 166 غراماً من الفضة، وليس عشرين قطعة نقدية. كتبت معظم المصطلحات النقدية في العهد القديم بكمية الفضة بدلاً من عدد العملات. فإخوة يوسف باعوه إلى الإسماعيليين بعشرين شيكلاً من الفضة، أو بالأحرى 166 غراماً من الفضة (نفس سعر المرأة العبدة رغم أنه كان شاباً).

على عكس سيلات الشعير، لم يكن للشيكل الفضي أي قيمة أصيلة، فلا يمكنك أن تأكل الفضة أو تشربها أو تلبسها، وهي ليست صلبة كفاية لصنع أدوات مفيدة منها، فمحاريث الفضة أو سيوف الفضة تنبعج بسرعة تشابه انبعاج رقائق الألومنيوم. وحين تم استعمال الذهب والفضة حقاً، فإنهما استعملا في صناعة المجوهرات؛ كتيجان ورموز أخرى للدلالة على المكانة؛ كسلع فاخرة يمثل بها أعضاء ثقافة معينة مكانتهم الاجتماعية الرفيعة، فقيمتها ثقافية بحتة.

غدا المال في عالم اليوم مجرد بيانات إلكترونية. يبلغ مجموع الأموال في العالم حوالي 60 تريليون دولار، مع أن مجموع العملات المعدنية والأوراق النقدية أقل من 6 تريليون دولار، فأكثر من 90 بالمئة من جميع الأموال، أي أكثر من 50 تريليون دولار تظهر في حساباتنا، توجد فقط على خوادم الحواسيب. وفقاً لهذا، تنفَّذ معظم المعاملات التجارية عن طريق نقل البيانات الإلكترونية من ملف حاسوب إلى آخر، دون أي تبادل مادي للنقود. فالمجرمون وحدهم من يشترون منزلاً، على سبيل المثال، ويسلمون الثمن حقيبة مليئة بالأوراق النقدية. طالما أن الناس على استعداد لتداول السلع والخدمات مقابل البيانات الإلكترونية، فهي أفضل من العملات اللامعة والأوراق النقدية الهشة؛ لكونها أخف وزناً وأقل حجماً وأسهل تتبعاً.

لطّخ الفلاسفة والمفكرون والأنبياء سمعة المال لآلاف السنين، ونعتوه بأنه جذر كل الشرور. وليكن ما يكون، فالمال هو أيضا ذروة التسامح البشري، فالمال أكثر انفتاحاً من اللغة، ومن قوانين الدول، والأعراف الثقافية، والمعتقدات الدينية، والعادات الاجتماعية. المال هو نظام الثقة الوحيد الذي أنشأه البشر والذي يمكن أن يُجسِّر أي فجوة ثقافية، والذي لا يُميِّز على أساس الدين أو الجنس أو العرق أو السن أو الميول الجنسية. فبفضل المال، يستطيع حتى الأشخاص الذين لا يعرفون بعضهم البعض ولا يثقون في بعضهم البعض مع ذلك أن يتعاونوا بفعالية.