إعلام

إعلام

مقتطف من الفصل 14 – العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري

اكتشاف الجهل

مقتطف من الفصل 14 – العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري

اكتشاف الجهل

لم يكن بإمكانك حتى وقت قريب، أن تسمع عالماً، أو أي شخص آخر، يتكلم بمثل هذه الصراحة. كانوا يؤكدون: “هزيمة الموت؟! ما هذا الهراء! نحن نحاول فقط أن نعالج السرطان والسل وألزهايمر”. تجنب الناس مشكلة الموت لأنّ الهدف كان بعيد المنال جداً. فلمَ يُوجِدون توقعات غير معقولة؟ مع ذلك، فقد غدونا اليوم في وضع يمكننا من نعلن نوايانا حول الموت بصراحة. لقد غدا أهم أهداف الثورة العلمية هو منح البشرية حياة أبدية. وحتى لو بدا قتل الموت هدفاً بعيد المنال، فقد حققنا بالفعل أشياء لم يكن من الممكن تصورها قبل بضعة قرون.

في سنة 1199م، طعن سهمٌ الملكَ ريتشارد قلب الأسد في كتفه اليسرى. لو حصل ذلك اليوم، لكنا قلنا إنه أصيب بجرح بسيط. لكن في سنة 1199م، في ظل غياب المضادات الحيوية وطرق التعقيم الفعالة، أصيب هذا الجرح البسيط بالعدوى وتفشت فيه الغرغرينا. وكانت الطريقة الوحيدة لوقف انتشار الغرغرينا في القرن الثاني عشر هي بتر العضو المصاب، وهو أمر مستحيل حين تكون العدوى في الكتف. سرت الغرغرينا في جسم قلب الأسد، ولم يستطع أحد مساعدة الملك، ومات بعد أسبوعين وهو في معاناة عظيمة.

ظل أفضل الأطباء، حتى أواخر القرن التاسع عشر، يجهلون كيفية منع العدوى ووقف تعفن الأنسجة. وظل الأطباء في المستشفيات الميدانية يبترون بشكل روتيني أيادي وسيقان الجنود الذين أصيبوا بجروح طفيفة في الأطراف، خوفاً من الغرغرينا. وكان البتر، وجميع الإجراءات الطبية الأخرى (مثل خلع الأسنان)، تُجرَى بدون أي دواء مخدر. استخدمت أولى مواد التخدير – الإيثر والكلوروفورم والمورفين – بانتظام في الطب الغربي فقط في منتصف القرن التاسع عشر. وقبل ظهور الكلوروفورم، كان على أربعة جنود أن يثبتوا رفيقهم الجريح فيما يقوم الطبيب ببتر الطرف المصاب بالمنشار. وفي صبيحة اليوم التالي لمعركة واترلو (1815م)، كان يمكن رؤية أكوام من الأيادي والسيقان المبتورة. في تلك الأيام كان النجارون والجزارون المنضمون إلى الجيش يرسلون عادة للخدمة في الفيلق الطبي، لأن الجراحة لم تتطلب أكثر بكثير من معرفة استخدام السكاكين والمناشير.

تغيرت الأمور كاملاً في القرنين اللذين تليا معركة واترلو. أنقذتنا العقاقير والحقن والعمليات الجراحية المعقدة من عدد وافر من الأمراض والإصابات التي اعتبرت فيما مضى حكماً بالإعدام لا مفر منه. كما أنها حمتنا من آلام ووعكات يومية لا حصر لها كان الناس يعدونها ببساطة جزءاً من الحياة. قفز متوسط ​​العمر المتوقع من حوالي خمسة وعشرين إلى أربعين سنة، ليصل إلى حوالي سبعة وستين سنة، في جميع أنحاء العالم، وإلى حوالي ثمانين سنة في العالم المتقدم.

كم من الوقت سيستغرق مشروع جلجامش الباحث عن الخلود حتى يتحقق؟ مئة سنة؟ خمسمئة سنة؟ ألف سنة؟ نتفائل حين نتذكر حجم معرفتنا القليلة عن جسم الإنسان في سنة 1900م مقارنة بالمعرفة التي اكتسبناها في قرن واحد. تمكن المهندسون الوراثيون مؤخراً من تمديد متوسط ​​العمر المتوقع لدودة الربداء الرشيقة إلى ستة أضعاف. فهل يمكنهم فعل ذات الشيء مع الإنسان العاقل؟ يقوم خبراء تقنية النانو بتطوير نظام مناعة تقني-حيوي يتكون من ملايين الروبوتات النانوية، التي ستسكن أجسامنا، وتفتح الأوعية الدموية المسدودة، وتحارب الفيروسات والبكتيريا، وتقضي على الخلايا السرطانية، وتعكس عمليات الشيخوخة. ويتوقع عدد من العلماء المهمين أنه بحلول سنة 2050م، سيصبح بعض البشر عصيين على الموت (لا خالدين، لأنهم قد يموتون بسبب بعض الحوادث، بل عصيين على الموت، أي أنه يمكن أن تمتد حياتهم في غياب الحوادث المميتة إلى أجل غير مسمى).

وسواء أنجح مشروع جلجامش أم فشل، فمن الرائع من منظور تاريخي أن نرى أن معظم الديانات والإيديولوجيات الحديثة المتأخرة أقصت الموت والحياة الآخرة من اهتماماتها. فحتى القرن الثامن عشر، اعتبرت الديانات الموت وما بعده أمراً مركزيا لمعنى الحياة. وبدءاً من القرن الثامن عشر، فقدت الديانات والإيديولوجيات، مثل الليبرالية، والاشتراكية، والنسوية، كل الاهتمام بالحياة الآخرة. ما الذي سيحدث بالضبط لشيوعي بعد أن يموت؟ ماذا سيحدث لرأسمالي؟ ماذا سيحدث لنسوية؟ من العبث البحث عن إجابة في كتابات ماركس، أو آدم سميث، أو سيمون دي بوفوار. والقومية هي الأيديولوجية الحديثة الوحيدة التي ما تزال تمنح الموت دوراً مركزياً. في لحظاتها الأكثر شاعرية ويأساً، تَعِدُ القومية بأن كل من يموت من أجل الأمة سيعيش خالداً إلى الأبد في الذاكرة الجمعية للأمة. ومع ذلك، فإن هذا الوعد غامض إلى درجة أنه حتى عتاة القوميين لا يعرفون ما الذي يعنيه حقاً لهم.